بحث القواعد الآمرة و المكملة مع قائمة المراجع والخطة -
خطة البحث
مقدمــة
المبحـث الأول : القواعد القانونية الآمرة والمكملة
المطلب الأول : القواعد القانونية الآمرة
الفرع الأول : تعريفها
الفرع الثاني : أثر مخالفة القواعد القانونية الآمرة
المطلب الثاني : القواعد المكملة
الفرع الأول : تعريفها
الفرع الثاني : جدوى القواعد القانونية المكملة
الفرع الثالث : قوة الإلزام في القواعد المكملة
المبحث الثاني : معايير التفرقة بين القواعد المكملة والآمرة
المطلب الأول : المعيار اللفظي
المطلب الثاني : المعيار المعنوي
الفرع الأولا : النظام العام
الفرع الثاني : الآداب العامة
الفرع الثالث : سلطة القاضي
خاتمـــة
مقدمــة
بعد أن عرفنا في السابق أن القانون باتفاق جمهور الفقهاء أنه يتميز بثلاثة خصائص كونه قاعدة عامة مجردة وذات سلوك إجتماعي ومصحوبة بجزاء تطرقنا أيضا إلى أنه ينقسم إلى قانون عام وقانون خاص .
سوف نتناول في بحثنا هذا إلى تقسيم القانون إلى قواعد آمرة وقواعد مكملة وتبرز الأهمية العلمية للموضوع وكيفية التفريق بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة أما الأهمية العملية فتبرز من خلال تطبيق القواعد الآمرة والمكملة في القضاء وكذا ممارستها على الأفراد وكسب قوتها الإلزامية ومن هنا سوف نطرح بعض الإشكاليات التي تدور حول تعريف كل من القواعد الآمرة والمكملة ومعايير التفرقة بينهما وكذا مرجع التفرقة والتي سنحاول بقد المستطاع الإجابة عنها في بحثنا هذا .
المطلب الأول
القواعد القانونية الآمرة
الفرع الأول : تعريف القواعد الآمرة أو الناهية:
القواعد الآمرة هي القواعد التي تجبر الأفراد على إتباعها واحترامها ولا يجوز للإفراد أن يتفقوا على ما يخالف حكمها وكل اتفاق بين الأفراد على مخالفة أحكامها تعتبر اتفاقا باطلا لا يعتد به لان هذا النوع من القواعد القانونية يتولى تنظيمها مسائل تتعلق بإقامة النظام في المجتمع ولذلك فإنه لا يصح أن يترك مثل هذا التنظيم لإرادة الفرد .
ويلاحظ أن الفقه يجري على تسمية هذه القواعد بالقواعد الآمرة وأحيانا بالقواعد الناهية على أساس أنها قواعد مفروضة ولأخيار الأشخاص في إتباعها أو عدم إتباعها بل عليهم العمل بمقتضاها والخضوع لأحكامها .
غير أن لفظ الآمرة هو الشائع في الفقه لذا فقد فصل عن غيره بيد أنه يجدر ملاحظة أن إطلاق هذا اللفظ على مثل هذه القواعد لا يعني أنها تتضمن أمرا في جميع الحالات فقد تتضمن نهيا عن إثبات فعل معين كنصوص تقنين العقوبات التي تنهى عن ارتكاب الجرائم المختلفة والمقصود من لفظ الآمرة هو مجرد الإشارة على عدم جواز خروج الأفراد على ما يقتضي به القواعد عن طريق الاتفاقات الخاصة
الفرع الثاني : اثر مخالفة القواعد الآمرة على اتفاقيات الأفراد
إن القواعد الآمرة كما ذكرنا تتعلق بكيان المجتمع وأسسه وهذا من شأنه أن يعدم حرية الأفراد إزاء ما تتضمنه هذه القواعد من أحكام وبالتالي يكون كل اتفاق على ما يخالفها باطلا ويعصف البطلان في هذه الحالة بأنه مطلق .
أمثلة القواعد الآمرة والناهية :
القواعد التي تتعلق بشكل الدولة أو نظام الحكم فيها والعلاقات بين السلطات العامة , فواعد تقنين العقوبات التي تنظم الجرائم والعقوبات المقررة لها القواعد التي تعرض الخدمة الوطنية والمشاركة في الأعباء العامة عن طريق الضرائب والرسوم , القاعدة التي تنص عن التعامل في تركة الإنسان على قيد الحياة القاعد القانونية التي تنهي القاضي عن شراء الحق المتنازع فيه إذا كان النظر في النزاع الثائر بشأنه داخل في مجال اختصاص المحكمة التي يمارس عمله في دائرتها القاعدة التي تبين المحرمات من النساء القاعدة التي تقرر أن القرض بين الأفراد يكون بدون فائدة ففي كل هذه الأمثلة لا يستطيع الفرد أو الأفراد المخاطبين بأحكام القواعد الآمرة الاتفاق على مخالفة أي حكم من أحكامها و إلا كان اتفاقهم باطلا .
المطلب الثاني
القواعد المكملة
الفرع الأول : تعريف القواعد المكملة
القواعد المكملة هي تلك القواعد التي يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها لأنها لا تتصل بالمصلحة العامة للجماعة بل تتعلق بالمصالح الخاصة للأفراد لذلك اثر المشرع أنت يترك لهم حرية تدبير مصالحهم ولو على نحو مخالف لما تقتضي به القاعدة المكملة التي وضعها المشرع لمواجهة هذه الحالة هي التي تطبق عليها إذ كثيرا ما لا ينتبه الأفراد إلى تنظيم بعض المسائل التفصيلية في اتفاقاتهم الخاصة ونخلص إلى أن القاعدة المكملة على عكس القاعدة الآمرة لا تمثل قيدا على حرية الأفراد بل تترك لهم الحرية في تطبيقها كما هي أو استعادها وتطبيق ما اتفقوا عليه ولهذا اعتبرت هذه القاعدة مكملة لإرادة الفرد فلا تنطبق إلا حيث لا يوجد اتفاق بين ذوي الشأن على تنظيم علاقاتهم أو حيث وجد الاتفاق وكان ناقصا
أمثلة على القواعد المكملة :
أن يتفق البائع والمشتري على المبيع والثمن دون أن يحددا معيار دفع الثمن وتسليم المبيع ولا المكان الذي يجب أن يتم فيه ذلك فهنا تسري عليها نصوص التقنين المدني التي تجعل وفاء الثمن وتسليم المبيع مستحقين فور العقد وتقضي بأن يكون وفاء الثمن في مكان تسليم المبيع ( المادتان 387- 388 من التقنين المدني ) القواعد التي تنظم علاقة المؤجر والمستأجر أو القيام بالترميمات الضرورية في هذا المكان ما لم يقضي الاتفاق بينهما بغير ذلك , فهذه القاعدة مكملة فللأفراد الحرية في تطبيقها كما هي أو مخالفتها بحيث يتفقوا على أن المستأجر هو الذي يقوم بهذه الصيانة والترميمات وذلك على عكس ما يقتضي به النص ( 479 من التقنين المدني ) .
الفرع الثاني: جدوى القواعد القانونية المكملة :
إذا كانت القاعدة القانونية المكملة هي التي يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها فلماذا لم يترك لهم بداءة أمر تنظيم علاقاتهم على النحو الذي يرغبون فيه ؟ أي ما هي الغاية من وجود هذه القاعدة التي تترك للأفراد حرية مخالفتها إن شاءوا ؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تكون من زاويتين .
الأولى : رغبة المشرع في جعل الأفراد يستغنون عن البحث في المسائل التفصيلية التي تنظم علاقاتهم , دفعته إلى إيجاد القواعد الكفيلة بحكم تلك العلاقات .
ثانيا : كثيرا ما قد يكون الأفراد غير خبرة ببعض المسائل أو كثيرا ما لا ينتبهون إلى تنظيم بعض المسائل التفصيلية أو انه لا وقت لديهم للبحث عن مثل هذه التفصيلات فما عليهم سوى الاتفاق من الأفراد على مسألة معينة فمن يبرم عقد بيع مثلا ما عليه سوى الاتفاق عن المبيع والثمن فقط أما ما دون ذلك من بيان لمكان تسليم المبيع وزمانه وكيفية دفع الثمن ومكانه وزمانه والتزامات البائع بضمان الاستحقاق أو بضمان العيوب الخفية فكلها أمور وفرت القواعد .
الفرع الثالث : قوة الإلزام في القواعد المكملة :
سبق أن ذكرنا في خصائص القاعدة القانونية أنها قاعدة ملزمة وها نحن نقول الآن أن القاعدة المكملة يجوز للإفراد الاتفاق على ما يخالفها أفلا يوجد تعارض بين خاصية إلزامية القاعدة القانونية وجواز مخالفة القاعدة القانونية المكممة ؟ وبعبارة أخرى هل تبقى للقاعدة المكملة صفة القاعدة القانونية رغم امكان الخروج عنها باتفاق ذوي الشأن .
بعض الفقهاء قالوا إن القواعد المكملة تكون اختيارية ابتداءا وملزمة انتهاءا أي أن الأفراد إلى وقت إبرام العقد أحرار في الاتفاق على ما يخالفها وفي هذه الفترة تكون القاعدة اختيارية بالنسبة إليهم ولكنهم متى أبرموا العقد دون أن يتهملوا حقهم في الاتفاق على حكم آخر يخالفها فإنها تصير ملزمة أي تنقلب من اختيارية إلى ملزمة بمجرد عدم الاتفاق على ما يخالفها.
الرد على هذا الرأي :
انتقد هذا الرأي من أغلب الشّراح لأن القول بأن القاعدة المكملة اختيارية قبل العقد وملزمة بعده يعني أن تتغير طبيعة القاعدة القانونية تبعا لعنصر خارج عن القاعدة نفسها وهو عدم اتفاق الأفراد على ما يخافها وهو ما لا يجوز أضف إلى ذلك أن التسليم بأن القاعدة المكملة تكون اختيارية ابتداءا ينتفي عنها صفة القاعدة القانونية التي يجب أن تكون ملزمة ابتداءا أو انتهاءا .
الرأي الثاني :
إن كانت جميع القواعد القانونية ملزمة فإن درجة إلزاميتها تختلف من قاعدة إلى أخرى فالإلزام أشد في القواعد الآمرة منه في القواعد المكملة .
الرد على الرأي :
إن درجة الإلزام لا تتجزأ فإما أن تكون ملزمة أو غير ملزمة
الرأي الثالث : إن القواعد المكملة قواعد ملزمة وكل ما في الآمر أنها على عكس القاعدة الآمر لا يمكن تطبيقها إلا إذا لم يتفق الأفراد على استعادها بمعنى أنه إذا لم يستبعدوها أصبح ما تقرره ملزما لها أما إذا اتفقوا على مخالفتها فإنها لا تطبق على علاقاتهم القانونية فالمشرع وضع شرط لتطبيق القاعدة المكملة وهذا الشرط هو عدم وجود اتفاق على مخالفتها فإذا تحقق هذا الشرط طبقت القاعدة و إلا فلا وعدم تطبيقها لا يرجع إلى كونها غير ملزمة بل يرجع إلى تخلف شرط تطبيقها ويخلص إلى أن كل قواعد القانون ملزمة غير أن المشرع وضع شرطا لتطبيق القاعدة المكملة دون القاعدة الآمرة وهو ألا يتفق الأفراد على حكم يغاير ما تقتضي به تلك القاعدة
المبحث الثاني
معايير التفرقة بين القواعد الآمرة والمكملة
إن التمييز بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة أمر بالغ الأهمية , إذ يتوقف على هذا التمييز مصير اتفاقات الأطراف من حيث الصحة والبطلان . وبعد أن انتهينا إلى أن القاعدة الآمرة هي القاعدة التي لا يجوز للمتعاقدين الاتفاق على ما يخالفها , والى أن القاعدة المكملة هي التي يجوز لهما فيها ذلك , بقي لنا أن نتساءل : كيف نعرف أن القاعدة القانونية آمرة , وبالتالي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها , أو مكملة , وبالتالي يجوز الاتفاق على مخالفتها ؟
لقد توصل الفقه إلى معيارين يمكن بالتعويل على أحدهما أو عليهما معا التوصل إلى طبيعة القاعدة القانونية هما : المعيار اللفظي , والمعيار المعنوي
المطلب الاول : المعيار اللفظي
يمتاز هذا المعيار بسهولة إعماله, إذ إنه يعتمد في التعرف على نوع القاعدة القانونية على عبارات النص و ألفاضه. فقد يصاغ نص القاعدة بألفاظ وعبارات يفهم منها بوضوح ما إذا كانت القاعدة آمرة أو مكملة, يعتبر المعيار اللفظي معيارا جامدا, لأنه يحدد طبيعة القاعدة تحديدا لا يحتاج إلى بذل أي مجهود عقلي أو مباشرة أية سلطة تقديرية.
وقد احتوى القانون الجزائري على قواعد كثيرة تضمنت نصوصا صريحة في بطلان الاتفاق على ما يخالفها أو فرض عقوبة كثيرة تضمنت نصوصا صريحة في بطلان الاتفاق على ما يخالفها أو فرض عقوبة على مخالفتها, أو في جواز مثل هذا الاتفاق, ففي الحالة الأولى تكون القواعد آمرة, وفي الثانية تكون مكملة.
أمثلة للقواعد الآمرة في القانون الجزائري حسب المعيار اللفظي:
كل قواعد تقنين العقوبات صريحة النص على صفتها الآمرة , وذلك بما تتضمنه من عقوبات على ما تحرمه من أفعال .
- نص المادة 92/02 من التقنين المدني التي تنص على أن (( التعامل في تركة إنسان على قيد الحياة باطل ولو كان برضاه ))
- نص المادة 402 من التقنين المدني الذي يحرم على القضاة والمحامين والموثقين وكتاب الضبط أن يشتروا الحق المتنازع فيه , إذا كان النظر في النزاع يدخل في اختصاص المحكمة التي يباشرون أعمالهم في دائرتها
- نص المادة 107/03 من التقنين المدني الذي يقرر أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها , وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام العقدي , وإن لم يصبح مستحيلا , صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة , جاز للقاضي تبعا للظروف , وبعد مراعاة مصلحة الطرفين , أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول , ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك .
- نص المادة 454 من التقنين المدني الذي يقضي بأن القرض بين الأفراد يكون دائما بدون أجر , ويقع باطلا كل شرط يخالف ذلك .
أمثلة للقواعد المكملة في القانون الجزائري حسب المعيار اللفظي :
يظهر من صياغة النص أن القاعدة مكملة إذا تضمنت على الأخص العبارات التالية :
- ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك .
- ما لم يوجد اتفاق أو نص قانوني يقضي بغر ذلك .
- ما لم يقضي الاتفاق بغير ذلك .
ومثال ذلك :
- القاعدة التي تضمنتها المادة 277 من التقنين المدني التي تقضي بأن لا يجبر المدين الدائن على قبول وفاء جزئي لحقه ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك .
- القاعدة التي تضمنها نص المادة 479 من نفس التقنين التي تفرض على المؤجر التزام صيانة العين المؤجرة وإجراء الترميمات الضرورية أثناء الإجارة , ما لم يقض الاتفاق بغير دلك
المطلب الثاني : المعيار المعنوي
إن صياغة القاعدة القانونية قد لا تنبئ عن صفتها الآمرة أو المكملة فيلزم في هذه الحالة البحث عن معيار آخر يمكن عن طريقة التوصل إلى نوع القاعدة وهذا المعيار هو المعيار المعنوي . وهذا المعيار ليس حاسما كالمعيار اللفظي أو المادي , فهو تقديري مرن , يساعد إلى حد بعيد على تحديد نوع القاعدة , وذلك على أساس البحث في موضوع القاعة ذاتها ومدى اتصالها بالأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يقوم عليها المجتمع لإمكان القول بأنها قاعدة آمرة أو مكملة .
وتسهيلا للفصل في هذا الأمر , درج الفقه على القول بأن القواعد القانونية تكون آمرة إذا تعلق موضوعها بالنظام العام أو بالآداب العامة , وتكون مكملة إذا تعلقت بالمصالح الخاصة للأفراد .
غير انه من المستحيل وضع قائمة جامعة مانعة لكل ما هو مخالف للنظام العام أو الآداب العامة , لذا فقد إكتفى المشرع الجزائري في نطاق الالتزامات بالنص في المادة 96 من التقنين المدني على انه (( إذا كان محل الالتزام مخالفا للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا )), كما نصت في المادة 97 منه على أنه (( إذا التزم المتعاقد لسبب مخالف للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا )).
وإذا كان النظام العام والآداب إذن هو المعيار الموضوعي أو المعنوي للتمييز بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة , حيث لا تكمن صياغة النص م ذلك , فما هو المقصود بالنظام العام , وما معنى الآداب العامة ؟
الفرع الاول : النظام العام
أولا - المقصود بالنظام العام :
لم يعرف المشرع الجزائري – على غرار غيره من المشرعين – النظام العام ولم يحدد فكرته , بل ترك ذلك للفقه والقضاء , برغم ما لهذه الفكرة من أهمية كبرى في التفرقة بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة ومع أن فكرة النظام العام كانت دائما تستعصي على التعريف , فقد حاول الفقه والقضاء فعل ما أغفله المشرع , وقد اكتفى الشراح بتقريبها من الأذهان بقولهم إن النظام العام هو الأساس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والخلقي الذي يسود المجتمع في وقت من الأوقات , بحث لا يتصور بقاء المجتمع سليما دون استقرار هذا الأساس , وبحيث ينهار المجتمع بمخالفة المقومات التي تدخل ضمن هذا الأساس . لذا كانت القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام آمرة لا تجوز مخالفتها .
وترجع صعوبة تعريف النظام العام تعريفا دقيقا إلى أن فكرته مرنة غير محددة و بمعنى أنها فكرة نسبية تتغير وفقا للمكان والزمان , فهي تختلف من مجتمع إلى آخر وما يعتبر من النظام العام في مجتمع معين وفي زمن معين قد لا يصبح كذلك في زمن لاحق و وذلك بعل تغير أسس المجتمع بتغير المبادئ والعقائد والمذاهب الفكرية والاجتماعية والسياسية السائدة فيه .
ولا شك أن فكرة النظام العام التي تسود الدول التي تعتنق المذهب الاشتراكي تختلف عن ذات الفكرة في الدول التي تعتنق المذهب الفردي: فحيث يسود المذهب الاشتراكي يكثر تدخل الدولة في الشؤون الخاصة , فتتفرع بعض المصالح الخاصة إلى مرتبة المصالح العامة الجديرة بالحماية فيتسع بذلك نطاق فكرة النظام العام , وتكثر تبعا لذلك القواعد الآمرة . فسيادة النظام العام الاشتراكي في الدولة تؤدي إلى ظهور نظام عام جديد هو ما يسمى بالنظام العام الاشتراكي. وحيث يكون المذهب الفردي هو السائد, فإن الحرية الفردية تكون طليقة من القيود, فتترك للأفراد حرية تنظيم علاقاتهم الخاصة, ويسود مبدأ سلطان الإرادة, وتتقلص فكرة النظام العام, وتكثر بالتالي القواعد المكملة.
ثانيا - تطبيق فكرة النظام العام:
جرى الفقه على استعراض فروع القانون المختلفة لتحري فكرة النظام العام في كل منها, والقانون , كما رأينا , ينقسم إلى قسمين كبيرين : القانون العام والقانون الخاص .
وإذا كان المجال الطبيعي للقواعد الآمرة هو القانون العام, فإن هذه القواعد نجدها أيضا – وإن كان مجالها أضيق – في نطاق القانون الخاص. ونتناول فيما يأتي تطبيق فكرة النظام العام, في مجال كل من القانون العام والقانون الخاص.
1- في مجال القانون العام :
تعتبر قواعد القانون العام كلها متعلقة بالنظام العام و ومن ثم لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالف أحكامها , تستوي في ذلك قواعد كل من القانون الدستوري والإداري والمالي والجنائي . فقواعد كل فروع القانون العام تتعلق بالنظام العام لأنها تمس كيان الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي والخلقي .
فقواعد القانون الدستوري تتعلق بالنظام العام , لان التنظيم السياسي للدولة والحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور, كلها من النظام العام لذلك يقع باطلا كل اتفاق على تنازل الشخص عن حقه في الترشيح . ويقع باطلا الاتفاق الذي يقيد حق الشخص في اعتناق الدين الذي يريده .
وقواعد القانون الإداري تتعلق بالنظام العام , وبالتالي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها . فلا يجوز للموظف أن يتنازل على وظيفته للغير مقابل مبلغ من النقود أو بدون مقابل , أو أن يتعهد بعدم القيام بواجبه الوظيفي تحقيقا لمصلحة أحد الأفراد , أو أن يتعهد بالقيام بهذا الواجب مقابل مبلغ من النقود .
وقواعد القانون المالي أيضا تتعلق بالنظام العام , فلا يجوز مثلا اتفاق شخص مع مأمور الضرائب على عدم دفع الضريبة لقاء مبلغ معين من النقود .
وقواعد القانون الجنائي تعتبر من أهم قواعد القانون العام المتعلقة بالنظام العام فهي التي تكفل الأمن والطمأنينة في المجتمع , فيقع باطلا كل اتفاق على ارتكاب الجريمة أو النزول عنها من جانب المجني عليه , ولا يعتمد برضائه بها , أو على تحمل شخص المسؤولية الجنائية والعقوبة بدل شخص آخر ارتكب جريمة من الجرائم .
ونخلص إلى أن التفرقة بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة إنما تقتصر على قواعد القانون الخاص دون قواعد القانون العام .
2- في مجال القانون الخاص :
ولئن كانت القواعد المتعلقة بالنظام العام أوفر ما تكون في مجال القانون العام كما تقدم فيما سبق , فإن القانون الخاص لا يخلوا منها , وخاصة في البلاد التي يسود المذهب الاشتراكي , حيث تكثر القيود على سلطان إرادة الأفراد في إبرام التصرفات القانونية . وقواعد القانون الخاص تنقسم إلى قواعد شكلية وقواعد المعاملات .
فالقواعد الشكلية : كقواعد المرافعات ( الإجراءات ) , وقواعد القانون الدول الخاص يتعلق أكثرها بالنظام العام لاتصالها بالنظام القضائي للدولة . وكذلك القواعد المتعلقة بشكل التصرفات القانونية , ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 882 من التقنين المدني أن (( لا ينعقد الرهن إلا بعقد رسمي )) . فالشكل الرسمي في هذه الحالة هو من النظام العام بحيث يعتبر العقد باطلا إذا لم يتم في هذا الشكل .
والقواعد الموضوعية : وهي تنقسم –كما سلف- إلى قواعد الأحوال الشخصية وقواعد المعاملات أي الأحوال العينية:
فقواعد الأحوال الشخصية هي القواعد التي تحكم الروابط التي تتعلق بحالة الشخص وأهليته , وبنظام الأسرة بما فيها من زواج وطلاق وواجبات الآباء والأبناء ولما كانت الأسرة هي أساس المجتمع , كان من الطبيعي أن تتعلق كل قواعد الأحوال الشخصية بالنظام العام , وبالتالي تكون قواعد آمرة . وعلى ذلك لا يجوز لشخص أن يتنازل عن أهليته ( م 45 من مدني ) , لأن السن التي يحددها القانون للرشد وهي 19 سنة ( م 40 مدني ) لا يجوز إنقاصها أو زيادتها بالاتفاق . كما أنه لا يجوز إنقاصها بالاتفاق . كما أنه لا يجوز الاتفاق على حرمان الصبي المميز , أي الذي بلغ سن التمييز التي يحددها التقنين المدني ببلوغ الشخص 16 سنة ( م 42 ) , من حقه قي طلب إبطال التصرف الذي أجراه – وهو ناقص التمييز – بعد بلوغه سن الرشد.
وقواعد المعاملات : هي القواعد التي تحكم الروابط المالية التي تتم بين الأفراد وقوامها ما يبرم بينهم من العقود . والأصل أن هذه القواعد لا تتعلق بالنظام العام لأنها تنشأ لسد حاجات الأفراد الخاصة , ولذلك تترك لهم حرية تنظيمها على أساس مبدأ سلطان الإرادة . وبذلك تعتبر أغلب القواعد القانونية التي تتعلق بهذه الروابط مكملة .
غير أن المشرع استثنى بعض المعاملات المالية التي تمس كيان المجتمع من الناحية الاجتماعية والاقتصادية للدولة , فلم يتركها للأفراد , بل تدخل لتنظيمها تنظيما آمرا , بحيث لا يجوز للأفراد الخروج عليها , أي أنه أعتبرها متعلقة بالنظام العام وهذه أمثلة للروابط المالية المتعلقة بالنظام العام :
القواعد الخاصة بنظام الملكية :
تعتبر هذه القواعد متعلقة بالنظام العام , وذلك على أساس أن حق الملكية من الحقوق الأساسية في المجتمع , لذلك حرص المشرع على تنظيمه في صورة آمرة , فنجده قد أورد على هذا الحق عدة قيود يجب احترامها . والهدف من هذه القيود هو رغبة المشرع في حسن استعمال حق الملكية وعدم التعسف فيه , ومن هذه القواعد أيضا تلك التي تنظم مسألة شهر التصرفات المتعلقة بالملكية العقارية , والقواعد المتعلقة بالملكية العقارية , والقواعد المتعلقة بالحقوق العينية الأخرى التي ترد على العقار كحق الارتفاق والرهن الرسمي , فهي كلها حقوق تتعلق بالنظام العام , وبالتالي لا يجوز الاتفاق على ما يخالف أحكامها .
القواعد الخاصة بحماية الطرف الضعيف في العقد :
لقد أورد التقنين المدني نصوصا آمرة كثيرة رعاية منه الطرف الضعيف في العقد ومنعا لتحكم الطرف القوي فيه عن طريق فرض شروط تعسفية جائزة تلحق بالطرف الضعيف ضررا كبيرا . ومثال هذه النصوص , القاعدة التي قررتها المادة 110 منه , ومثالها أيضا القاعدة التي تضمنتها المادة 107/03 من نفس التقنين التي ترعى مصلحة المتعاقد إثر الحوادث الطارئة . ومنها كذلك القواعد التي أوردتها المواد من 81 إلى 90 منه لحماية المتعاقد الذي شاب إرادته احد عيوب الإرادة وهي الغلط, الإكراه, التدليس والاستغلال.
الفرع الثاني : الآداب العامة
أولا- معنى الآداب العامة:
هي مجموعة القواعد الخلقية الأساسية والضرورية لقيام وبقاء المجتمع سليما من الانحلال , أي هي ذلك (( القدر من المبادئ التي تتبع من التقاليد والمعتقدات الدينية والأخلاق في المجتمع والتي يتكون منها الحد الادنى للقيم والاخلاقيات التي يعد الخروج عليها انحرافا وتحلا يدينه المجتمع )) , أي أن الآداب العامة هي التعبير الخلقي عن فكرة النظام العام .
ولما كانت الآداب كذلك , فإن القواعد القانونية التي تتصل بها لا يمكن أن تكون إلا آمرة يمتنع على الفرد مخالفتها , لأن في مخالفتها إنهيار للكيان الأخلاقي للمجتمع و الآداب العامة بهذا المفهوم تكون جزءا من النظام العام.
وعلى غرار فكرة النظام العام , نجد فكرة الآداب العامة , أيضا غير محددة وغير واضحة وصعبة الوصول إليها من الناحية النظرية . وهي أيضا فكرة نسبية تختلف من مجتمع إلى آخر كما تختلف في داخل المجتمع الواحد باختلاف الأزمان.
وننتهي إلى أن الآداب العامة هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين بإتباعها طبقا لناموس يسود علاقاتهم الاجتماعية .
ثانيا- تطبيقات الآداب العامة :
قضت المحاكم ببطلان الاتفاقات الخاصة لمخالفتها للآداب العامة في مسائل شتى تتعلق في الغالب بالعلاقات الجنسية وبيوت الدعارة والمقامرة ومن أمثلة التطبيقات القضائية التي تحكم القضاء فيها ببطلان لمخالفة الآداب العامة :
1- ما جرى علية القضاء من إبطال الاتفاقات التي تهدف إلى إقامة علاقات جنسية غير مشروعة بين رجل وامرأة نظير مبلغ من المال .
2- الاتفاقات التي تعقد بخصوص أماكن الدعارة كبيعها وايجارها , ولو كانت تلك الأماكن مرخصا بها من جهة الإدارة , لأن الترخيص إذا كان ينفي عن تلك الأماكن مخالفتها للنظام العام , فلا ينفي عنها للآداب العامة .
3- عقد الهتاف الذي يبرم بين مدير المسرح وجماعة من الهتافة , ويستأجر هم المدير للتصفيق وترويج ما يعرض على المسرح , لأن الغرض منه هو خداع الجمهور في قيمة المسرحيات , ويلاحظ أن المحاكم , سواء في فرنسا أو في مصر أخذ تميل إلى إجازة عقد الهتاف وتصرفات كثيرة أخرى كانت تعتبر مخالفة للآداب العامة , وهذا ما يؤيد قولنا السابق بنسبية فكرة الآداب العامة , وتغيرها من دولة إلى أخرى , ومن جيل إلى جيل في داخل الدولة الواحدة .
4- عقد تلاوة القرآن الذي كان ينظر إليه على أنه تجارة بكلام الله تعالى والذي أصبح ينظر إليه على أنه وسيلة شريفة للارتزاق .
الفرع الثالث : سلطة القاضي في تحديد مضمون النظام العام والآداب العامة
لقد اتخذ المشرع من فكرة النظام العام والآداب العامة معيارا موضوعيا للتمييز بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة . غير أن هذه الفكرة لم يحددها المشرع فيسهل التعرف عليها , بل إن المشرع ترك أمر تحديدها للقاضي الذي تكون له في سبيل ذلك تقديرية واسعة , نظرا لعدم ثبات مضمون هذه الفكرة وتغيره في الزمان والمكان .
غير أن القاضي لا يملك أن يحل آراءه أو عقائده الشخصية , في هذا الصدد , محل آراء الجماعة , فلا ينبغي أن يعتبر القاضي مصلحة ما مصلحة خاصة بالجماعة أو مصلحة خاصة بالأفراد بحسب رأيه الشخصي , بل يجب عليه أن ينظر إلى الاتجاه السائد في المجتمع والنظام القانوني الذي يحكمه , سواء اتفق مع رأيه الشخصي أم اختلف عنه . ولذلك فإن تطبيق فكرة النظام العام والآداب رغم مرونتها , يعتبر عملا قانونيا يخضع فيه القاضي لرقابة المحكمة التي تراقب حسن تطبيق القانون وهي المحكمة العليا أو محمكة النقض حسب التسميات .
خا تــــــمـة
وفي الأخير وبعد الإلمام بعناصر الموضوع ندرك أي أن للقواعد الآمرة والمكملة الدور الفعال في حياة الأفراد والمجتمع فالآمرة منها تقوم بالحفاظ على النظام العام والآداب العامة حتى لا يكون هناك خلل في المجتمع والمكملة تسهل للأفراد تسيير شؤونهم الخاصة وتنظم المعاملات التي تجري في هذا الإطار بشكل يضمن لكل ذي حق حقه .
قائمة المراجع
1- د. توفيق حسن فرج – المدخل للعلوم القانونية – النظرية العامة للقانون والنظرية العامة للحق , الطبعة الثالثة
2- د. محمد سعيد جعفور - مدخل إلى العلوم القانونية – الوجيز في نظرية القانون , طبعة 2002 .
3-د. حبيب ابراهيم الخليلي – المدخل للعلوم القانونية النظرية العامة للقانون 2001
4- الأستاذ . بلقاضي - محاضرات المدخل للعلوم القانونية .